سبع سنوات في حيفا... إحسان عبّاس يتذكّر | أرشيف

 

المصدر:  «مجلّة مشارف».

الكاتب(ة): غسّان عبد الخالق

زمن النشر: كانون الثاني (يناير) 1996

 

حينما كلّفني الزملاء في “مشارف” أن أعود بذاكرة الدكتور إحسان عبّاس إلى حيفا، حاولت التملّص من هذه الصيغة، واقترحتُ بدلًا من ذلك شكلًا من أشكال الكتابة، هو مزيج من الحوار والانطباعات الشخصيّة والتعليق على أحد المؤلّفات، وذلك لأكثر من سبب، فقد سبق أن كلّفت بمحاورة الدكتور إحسان عبّاس والكتابة عنه غير مرّة، وكان يميل في الحوار إلى الاقتضاب بوجه عامّ، أمّا الطفولة فقد كان يقفز عنها مكتفيًا بكلمات قليلة، لا تنفع غلّة ولا تشفي غليلًا، وهكذا وطّنت النفس على أن أكتب نصًّا يتكوّن من حوار توقّعته قصيرًا وانطباعات شخصيّة جديدة بالإضافة إلى قراءة في كتابه “فصول حول الحياة الثقافيّة والعمرانيّة في فلسطين”. لولا أنّ تدفّقًا مفاجئًا لم يكن في الحسبان، جعلني أضرب صفحًا عمّا كنتُ قد عزمت عليه، فاكتفيت بتسجيل سيال الذاكرة الذي لم أشأ أن أقطعه بسؤال أو تعليق، ثمّ لملمته وعرضته على الدكتور إحسان عبّاس فأقرّه، أملًا في أن تتاح لي الفرصة للإفادة من هذه السيرة في عمل إبداعيّ يستلهمها.

 

الفلّاح والمدينة

يقول إحساب عبّاس:

حينما بلغت التاسعة تقريبًا، أقنع الأستاذ عبد الرحيم الكرمي مدير مدرسة عين غزال الابتدائيّة، والدي، بإرسالي إلى حيفا لمتابعة دراستي.

وقد توجّهتُ بصحبة والدي إلى الدرسة الإسلاميّة التابعة للجمعيّة الإسلاميّة، حيث تمّ قبولي في الصفّ الثالث الابتدائيّ، ومع أنّني كنتُ قد اجتزت هذا الصفّ في مدرسة عين غزال، إلّا أنّ والدي ومن ثمّ أنا، تقبّلنا الأمر ببساطة الفلّاح الذي لا يجرؤ على المناقشة أو الاعتراض.

كان ذلك في عام ١٩٣٠، قبل أن تشهد حيفا تلك الجموع البشريّة التي تدفّقت عليها قادمة من سهول حوران في جنوب سوريا وشمال الأردنّ، بالإضافة إلى أبناء القرى الفلسطينيّة، فور الشروع في بناء الميناء ثمّ مصفاة البترول. لاحقًا… أصبحت المدينة كبيرة جدًّا، والأسعار في غاية الارتفاع، حتّى أنّ إيجار الغرفة الواحدة - ولا أقول الشقّة - بلغ خمسة عشر جنيهًا شهريًا، وبطبيعة الحال، فأنا لم أكن أملك ملّيمًا واحدًا مما وضعني في مأزق سيظلّ يطاردني طيلة السنوات السبع التي قضيتها في حيفا، ألا وهو العثور على مكان آوي إليه، خاصّة أنّ المدارس الداخليّة (مثل المطران والساليزيان)، لم تكن في متناول أمثالي من الطلّاب الفقراء.

لا أدري كيف أنّ والدي أقدم على إلحاقي بالمدرسة الإسلاميّة في حيفا دون أن يفكّر في هذا الأمر، وعلى أيّة حال، فقد بادر الأستاذ عبد الرحيم الكرمي إلى حلّ هذه المعضلة على نحو سحريّ، إذ أقنع أحد أقاربه الأثرياء - ويدعى أبا كمال - بإيوائي، وللحقّ فقد كانت هذه السنة الأولى التي قضيتها في كنف هذه العائلة أشبه بحلم ورديّ جميل.

كان أبو كمال تاجرًا كبيرًا من تجّار الأقمشة، وكان وزوجته على مستوى عالٍ من الرقيّ والتمدّن، وعاملاني كما لو كنت ابنًا لهما، ولم تكن عواطف ابنهما ـ كمال وحسن) بأقلّ من ذلك، صرت أتناول وجبات شهيّة ومغذّية، وأصطحب صفرطاسًا خاصًّا بالطعام إلى المدرسة، وأستحمّ مرّتين في الأسبوع، حيث أنّ جسمي كان من الضآلة والنحافة والاصفرار بمكان، فقد كانت أمّ كمال تشجّعني على تناول شراب زيت السمك، حتّى تتحسّن صحّتي ويزداد وزني قليلًا.

لم تمهلني الأقدار كثيرًا، فقد فجعت عائلة أبي كمال بموت الابن الأصغر (حسين) قبل نهاية العام الدراسيّ الأوّل، ولم تكن فجيعتي بأقلّ من هذه العائلة النبيلة، وعلى الرغم من أنّ أمّ كمال قد استمرّت بالحنوّ عليّ، إلّا أنّني لم أحتمل فكرة حلولي مكان ابنها، وكونها ترى فيّ ابنها الصغير الراحل، فقرّرت الابتعاد، وليتني لم أقرّر ذلك.

عدت بمحض إرادتي إلى الشارع، وأصبحت طفلًا قرويًّا هائمًا على وجهه، لا مال ولا أهل، ولشدّ ما كنت أخاف من أن أمرض وأنا على تلك الحال، لم أعد أذكر عدد العائلات التي تقاذفتني شهورًا أو أسابيع، وأحيانًا بضعة أيّام، لقد صار تأمين المأوى شغلي الشاغل، فما أن أظفر بعائلة تؤويني حتّى أفاجأ بتراجعها لأسباب معيشيّة، أو تنصّلًا من المسؤوليّة، كما صار “جامع الاستقلال” كعبتي التي أطوف حولها كلّ يوم، مفكّرًا في حالي ومتطلّعًا وجوه الناس.

ظللت على هذه الحال إلى أن شملني الشيخ أحمد السعدي برعايته التي امتدّت أربع سنوات (١٩٣٤ - ١٩٣٧). كان الشيخ أحمد السعدي يقطن حيًّا فقيرًا (وادي الصليب)، ويمتلك شخصيّة عجيبة وطريفة ما زالت محفورة في ذهني حتّى الآن، ضعيف النظر أمّيًا ساذجًا، ومع ذلك، فقد كان الناس يقصدونه لكي يكتب لهم الحُجُب ويصنع لهم الأدوية، وصار يكلّفني فيما بعد بكتابة السور القرآنيّة القصيرة بأحرف متقطّعة، حتّى لا يتمكّن مريدوه من قراءتها، فصرت أربأ بسور القرآن الكريم عن هذا الامتهان، وأكتب بدلًا منها أغاني “الدلعونا والعتابا” مقطّعة، إضافة إلى الحروف الإنجليزيّة.

ويضيف إحسان عبّاس، كانت غالبيّة معلّمي المدرسة الإسلاميّة من الشامّ، أذكر منهم الشيخ كمال القصّاب، الذي قدم من سوريا هربًا من الفرنسيين، كما أذكر ابنه الشيخ أبا الحسن، الذي كان يدرّس القرآن الكريم، والشيخ رضا المسؤول عن “الفلقة” والشيخ مننذر الذي كان يدرّس الجبر للصفّ الثالث على أنّه حساب، والأستاذ حسين حمّاد الذي كان يدرّس العربيّة والجغرافيا.

(…)

في أثناء دراستي في مدرسة حيفا الحكوميّة، خرجت في مظاهرات بمناسبة وعد بلفور، حيث كانت المدارس تعطّل وكنّا نهتف:

يعيش/ سيف الدين/ الحاج أمين/…

وسرنا مرّة حتّى وصلنا إلى منزل رشيد الحاجّ إبراهيم أحد زعماء حيفا، فخرج وباركنا قائلًا “سيروا على ما قدّر الله”.

سنتي الأولى في حيفا لم تخل من احتكاك باليهود لأوّل مرّة، فقد اجتمع حوالي وزميل آخر يدعى فائق طه ثلّة من الأولاد اليهود يتراوح عددهم بين (٩-١١) ولدًا، وراحوا يتحرّشون بنا، فناولني فائق كتبه، وكان أكبر منّي عمرًا وذا حجم ضخم، وراح يطاردهم حتّى ولوا الأدبار، بعد ذلك، وحينما انتقلت إلى مدرسة حيفا الحكوميّة، صرت أرى اليهود باستمرار، وفي إحدى المرّات سألني أحدهم، وكان رئيس العمّال، عمّا إذا كنتُ “بعرف عربي”، فلمّا اجبته بالإيجاب، طلب منّي أن أكتب على يافطة كانت معه الكلمتين التاليتين (الطريق مسكّغ”، وقد كتبتها حرفيًّا كما طلب، كما صرت أقرأ من آن لآخر عن “الهجرة اليهوديّة غير المشروعة” في صحيفة “الدفاع” (وكان رئيسها إبراهيم الشنطي) و”فلسطين” (وكان رئيسها عيسى العبسي)، ولن أنسى ما حييت ذلك الذهول الذي حطّ عليّ حينما رأيت صورة الشيخ عزّ الدين القسّام أثناء الثورة، وقد نشرت على أنّه الشهيد قائد الثوّار، إذ إنّني كنت أصلّي في جامع الاستقلال، وأستمع إلى خطبه التقليديّة المكرورة!! ويبدو لي أنّه كان يتعمّد ذلك حتّى لا يسترعي الانتباه لنفسه.

 

صورة لحيفا

كانت حيفا - كما سبق أن قلت - مدينة كبيرة مترامية، حيّة كلّها أدراج تبدأ بـ”الهدار” ثمّ تأخذ في الانحدار مرورًا بوادي النسناس، حيث كان يسكن العرب، فحيفا الشرقيّة التي كانت تشمل وادي الصليب وأحياء أخرى يقطنها مزيج من القرويين، فحيفا القديمة ذات البيوت الراقية القديمة، ورغم هذا الترامي بين أطرافها، فقد كنت أقطع المدينة من أقصاها إلى أقصاها مشيًا على الأقدام، صعودًا أو نزولًا، ولا أذكر أنّني ركبت حافلة أو سيّارة.

ولطالما استهوتني منطقة “جامع الاستقلال” المعلّم الأكبر في مدينة حيفا الشرقيّة، حيث مقابر المسلمين، وبسطات الكتب المعروفة للبيع، كنت أتصفّح بعينيّ أغلفة هذه الكتب التي لم أكن أملك ثمن أيّ منها، وأذكر أنّني دفعت لاحقًا مبلغ قلارشين ثمنًا لطبعة بيروتيّة لديوان ذي الرمّة الذي ظللت أقرأ فيه مدّة ولا أفهم ما أقرأ.

أمر آخر جعلني أحبّ هذه المنطقة أكثر من غيرها، إنّه الاحتفال بذكرى المولد النبويّ، حيث كانت كلّ قرية تمثل بحلقة دبكة، وقد سعدت كثيرًا بسنتي الدراسيّة الأولى، لأنّ قريتي “عين غزال”، كانت ممثّلة بحلقة “دبكة” فوقفت طويلًا أتفرّج.

لم يكن ثمّة زيّ مميّز لسكّان حيفا في الفترة التي سلختها فيها (١٩٣٠-١٩٣٧)، بل كان كلّ يلبس على هواه، وأذكر أنّني ارتديت مرّة القمباز وتوجّهت إلى الدرسة، فصادفني في المدرسة الشيخ تقيّ الدين النبهانيّ مؤسّس حزب التحرير فيما بعد، فلم يحبّذ ذلك، لأنّه يجعلني مختلفًا بين جموع الطلّاب الذين كانوا يرتدون البنطال القصير، أمّا المرأة كانت منقّبة على العموم.

وربّما لأنّني كنت صغير السنّ، وقرويًّا خجولًا، فإنّني لم أعر اهتمامًا للفتيات، ولم أخض تجربة عاطفيّة تذكر على الرغم من أنّ مدرسة البنات الإنجليزيّة، كانت قريبة من مدرسة حيفا الحكوميّة، ممّا أسمعه يدور بين الطلّاب الأكبر سنًّا وأشكّ في صحّته، بخصوص بعض الفتيات.

لم يكن ثمّة مسارح في حيفا أو دور سينما (كانت ثمّة سينما تدعى “عين دور” لليهود)، ولم يكن ثمّة قاعات للمحاضرات أيضًا. المكان الوحيد الذي كان يصلح للتنزّه هو ضريح “عبّاس أفندي” أحد أقطاب البهائيين، فقد كانت أزهاره مشذّبة بطريقة هندسيّة صارمة، وكنت أقضي الكثير من الوقت في هذا المكان وأنا أدرس، ومن آن لآخر كان ثمّة بعض المباريات التي تقام بين فريقين عربيين أو بين فريق عربيّ وآخر يهوديّ، حيث كان بوسعك أن تسمع هتافات مثل (كاديما هبوعيل أيّ تقدّموا)، وعلى ذكر المسرح، فقد قمت بإعادة تمثيل المسرحيّة التي عرضت في المدرسة الإسلاميّة (في أثناء السنة الأولى) في قريتي، حيث وزّعت الأدوار على شباب القرية بدقّة، ومن الطريف أن المسرحيّة كانت تتناول على نحو ساخر حياة الطلّاب في ظلّ الطريقة التقليديّة في التعليم - الكتاتيب.

وربّما كان من المفيد الإشارة إلى أنّ والدي غامر بافتتاح دكّان في حيفا لمدّة ستّة أشهر فقط، وفّرت لي فرصة ذهبيّة للجلوس في الدكّان وتأمّل الأمواج البشريّة التي كانت تكتظّ بها حيفا، ولطالما شدّتني رؤية بعض النماذج مثل الصوفيّ الأنيق أو العجوز التي لم تكن تتوقّف عن ترديد أغاني نوح إبراهيم مثل “دبّرها يا مستر دلّ… يمكن على يدّك تنحلّ”…

 

إميل حبيبي وأنا

في سنة ١٩٣٦. في أثناء الثورة والإضراب، توثّقت علاقتي بإميل حبيبي، الذي زاملته منذ عام ١٩٣٠، وقد زرته مرّة في بيته وأنا أردتي قمبازًا، كان إميل ينتمي إلى عائلة موسرة، ويقطن فيلا ضخمة تقع على طريق الكرمل وقريبة من المدرسة الثانويّة في حيفا، وقد اعتدنا في السنة الأخيرة أن نستقلّ القطار من حيفا إلى عكّا ذهابًا وإيابًا، حيث كنّا نواصل دراستنا في مدرسة عكّا الثانويّة، كان إميل يسعفنا كثيرًا بحلّ المسائل الهندسيّة والحسابيّة، وكنت أنا ألقي بعض الخطب، وفي الواقع، كنت قد أصبحت معروفًا في مدرسة عكّا، لأنّني قمت بترجمة مقطوعة إنجليزيّة، ترجمة سكبتُ فيها المعنى الحرفيّ في قوالب إيقاعيّة، فطار مدير المدرسة ومعلّم الإنجليزيّة في آن، ممّا أكسبني امتيازًا أسهم في إنقاذي من سوء فهم بالغ ملخّصه، أنّ فتاة في مثل سنّنا كانت تستقل القطار يوميًّا وتجلس وحيدة في حجرة بجانبنا، وقد فوجئت في أحد الأيّام برسالة وصلتني عن طريق المدرسة، تمتلئ بالتهديد والوعيد ومذيّلة برسوم مسدسّات وخناجر وموقّعة باسم علي يوسف، الذي تبيّن أنّه يطمح إلى استرعاء  انتباه الفتاة - التي لا أعرف حتّى اسمها - ويعتقد أنّني أحبّها، فظللت مكدّر البال مهمومًا، ويبدو أنّه أرسل رسالة إلى مدرسة الفتاة، يخبر المديرة فيها بأنّني أحبّ الفتاة، فما كان من المديرة إلّا أنّها هاتفت المدير الذي استدعاني إلى حجرته، فدخلت على وجل وقد أبصرت رجلين، واحد كبير في السنّ، وآخر شابّ ضخم متحفّز، فبادر الأستاذ سعيد النشاشيبي إلى القول: هذا هو إحسان عبّاس (ففهمت من نبرة صوته أنّهما كانا يتوقّعان شخصًا آخر ضخمًا تبدو الشقاوة على سيماه) ففوجئنا بفتى نحيل خجول، فسارع الرجل الكبير في السنّ إلى محادثتي بلطف، ثمّ صرفني المدير دون أن يعلّق بكلمة، وقد لحق بي بعد ذلك علي يوسف مرّة، لكي يعتذر عمّا بدر منه، فقلت له :عليك أن تعتذر للفتاة التي تسبّبت في انقطاعها عن الدراسة لأنّها م تستقلّ القطار بعد ذلك”.

وقد ضمّن إميل حبيبي هذه الحكاية - فيما بعد - روايته “المتشائل”.


عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.